كلنا نعلم أن هناك عشرات من أبيات الغزل التي يمتلئ بها الشعر العربي، وقد أمعنت هذه الأبيات في وصف جمال الغيد الحسان وحسن خلقتهن...، ولعلنا نستشهد ببيت للحصري القيرواني في وصف معبر للجمال
كَلِفٌ بغزال ذي هَيَفٍ سكرانُ اللَّحْظِ مُعَرْبِدُهُ
ومن حق القارئ أن يتعجب من الإستشهاد ببيت من صميم أبيات الغزل في شهر الرحمات، ولكن الشعر كان دوما لغة الإعلام لدى العرب حتى وقت قريب جدا، الخلاصة من البيت المذكور أن العيون لها لغة يفقهها كل من يعرف كيف ينفذ إلى أعماق من أمامه من نظرة عينيه، أو من تحديجة لها معنى، ولكنها ليست من غزال شارد، وإنما من محتاج سائل..
كنت قد أتممت لتوي صلاة الظهر بالمسجد وقد توجهت خارجا منه مارا بأحد الذين يجلسون لدى أبواب المساجد، كان الرجل مسنا بما يكفي لكي يعطف عليه بعض المصلين بما يجودون به، ولكنني مع انصراف معظم المصلين وخلو المسجد من الناس تقريبا وجدت الرجل يحدق في بنظرة لا تحمل أي معنى من معاني الإستعطاف، بل كانت نظرة عتاب غاضبة، نظرة ثابتة رمقني بها وأنا أمر أمامه خارجا، لم يحد بوجهه عن وجهي، ولم ينزل عينه من عينّي، مررت بالرجل خارجا وأنا أحس بأنني طُعِنْتُ في مصداقيتي كواحد من أبناء الأمة الإسلامية بأن مررت بعجوز حاول أن يخفي غضبه مني لأنني لم أجُدْ عليه بورقة نقد تغنيه عن حاجة ماسة أو عن سؤال من لا يتحرّج في التمنّع منه، لم يكن ذلك المسن يشكو عاهة أو ما شابه، ولم يقف أمام حشد المصلين متذللا باكيا مثل معظم سائلي المواسم، كانت تلك النظرة موجعة بحق إلى حد أنني لم أستطع أن أنساها أو أتظاهر بنسيانها، كأنني بالرجل يحدث نفسه بخيبة أمله في رجائه في أخ له في الدين قبل الإنسانية، والعجيب أن أمثال هؤلاء مع هذا الغضب البادي في نظراتهم وحركاتهم لا يسألون عطاء، ولكنهم ينتظرون بعض الإحساس ممن حولهم بدون بذل لماء وجوههم!
قرأت مثل كثير من القراء عشرات القصص عن سخاء النفس، ولكننا حين نرى فقيرا يتصدق على فقير آخر عن طيب خاطر نعرف معنى البخل الذي يستقر في أعماق الكثيرين، ونعرف معنى إلتماس الأعذار لقبض اليد أو للتقصير في المسارعة للبذل..
مررت منذ شهرين تقريبا بامرأة مسنة في إشارة مرور، كانت تبيع علب المناديل الورقية المعروفة، طرقت زجاج السيارة للفت نظري، فلم أفعل شيئا سوى أن أريتها العلبة المماثلة التي تستقر أمامي داخل السيارة، أشاحت العجوز بيدها ثم ولت بوجهها عني، ألهذا الحد كان إحساسي بفاقتها غائبا؟ كم تعذبني هذه الصورة الآن، صورة تلك المحتاجة التي خذلْتُها لأنني لم أكن في مزاج يسمح لي بإعطائها ورقة نقد، ربما كان الجو حارا بما يكفي لكي أبقي زجاج السيارة مغلقا ولا أحاول فتحه، أو ربما كنت في عجلة أغفلتني عن تأمل حالها، ولكنني الآن وددت لو أنني أخرت قضاء حاجتي لأقضي لها حاجتها أوّلا!
وفي زمن يستمتع فيه البعض بألوان مختارة من أطايب الطعام والشراب، هناك من لا يجدون ما يقيم أودهم لصيام يوم جديد، ربما يفطرون على الخبز الجاف والماء الكدر، ويقضون سحورهم في التسبيح حتى وقت طلوع الفجر، فهل لنا أن نجتهد في البحث عنهم وإستجلاب مرضاتهم علينا في شهر الرحمات والبركات؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وترجو الغنى)، وقد قال الفقهاء أقوالا كثيرة في فضل الصدقة، أولها هو الصدق مع الله في العطاء للمحتاجين، وما أكثرهم اليوم في عالم طغت فيه الماديات على كل شئ